فصل: (فرع: الربا في الطعوم)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[باب الربا]

الربا محرم، والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].
وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278].
وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]. و(المس): الجنون.
قال ابن عباس: (وذلك حين يقوم من قبره).
قال سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يبعث يوم القيامة مجنونًا. وقيل: إنه ما أحل الربا في شريعة قط.
قال الله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161].
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الكبائر سبعٌ، أوّلها: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبروا، والفرار من الزحف، ورمي المحصنات، والانقلاب إلى الأعراب بعد هجرة».
وروى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه».
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الربا وإن كان كثيرًا، فإنه يصير إلى قل».
إذا ثبت هذا: فالربا في اللغة: هو الزيادة.
قال الله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5]، أي: زادت.
ومنه قولهم: أربى فلانٌ على فلان، أي: زاد عليه.
والربا في الشرع يقع على وجهين: على الزيادة، وعلى النسيء، على ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

.[مسألة: الأصناف الربوية]

والأعيان التي ورد النص بتحريم الربا فيها، وأجمع المسلمون على تحريم الربا فيها ستة أشياء: الذهب، والفضة، والبُرّ، والشعير، والتمر، والملح.
والدليل عليه: ما روى عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البُر بالبُر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين، يدًا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والبر بالشعير، والتمر بالملح، كيف شئتم إذا كان يدًا بيد».
إذا ثبت هذا: فإن هذه الستة الأشياء، لم ينص عليها في تحريم الربا لأعيانها، وإنما نص عليها لمعنى فيها، فمتى وجد ذلك المعنى في غيرها.. حرم فيها الربا. هذا قول عامة العلماء، إلا داود ونفاة القياس، فإنهم قالوا: (إنما نص عليها لأعيانها، ولا يحرم الربا في غيرها).
ودليلنا: أن القياس عندنا حجة، ورد الشرع بالتعبد به، فوجب العمل به، وموضع الكلام في ذلك أصول الفقه.
وأيضًا: فإن الله تعالى قال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].
و(الربا): هو الزيادة، فيقتضي عموم الآية تحريم كل بيع فيه زيادة، إلا ما دلّ الدليل على تخصيصه وجوازه.
فإذا ثبت هذا: فإن هذه الأعيان معللة، فالعلة عندنا في الذهب والفضة: أنهما جنس الأثمان غالبًا، وهذه العلة واقفة لا تتعدى إلى غيرهما، وقد أومأ في "الفروع" إلى وجه آخر: أنه يحرم الربا في الفلوس التي هي ثمن الأشياء وقيم المتلفات في بعض البلاد. وليس بشيء؛ لأن ذلك نادر.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (العلة فيهما الوزن في جنس واحد). وقاس عليهما كل شيء موزون، مثل: الرصاص والحديد.
دليلنا: أنه يجوز إسلام الذهب والفضة في الحديد والرصاص والنحاس، ولو جمعتهما علة واحدة في الربا.. لم يجز إسلام أحدهما في الآخر، كما لا يجوز إسلام الذهب بالفضة، ولأنه لا ربا في معمول الحديد والصفر والنحاس، فلم يكن في تبره الربا، كالطين، وعكسه الذهب والفضة. وأما الأعيان الأربعة وهي: البُر والشعير والتمر والملح.. فلجميعها علة واحدة بالإجماع، كالذهب والفضة لهما علّة واحدة.
واختلف في علة هذه الأعيان الأربعة:
فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم إلى: (أن العلة فيها كونها مطعومة مكيل جنس، أو مطعومة موزون جنس).
فعلى هذا: العلة ذات ثلاثة أوصاف، وهو قول سعيد بن المسيب، ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل». والمماثلة لا تكون إلا بالكيل أو الوزن.
فعلى هذا: يجوز بيع ما لا يكال ولا يوزن من المطعومات، مثل: التفاح والسفرجل والرمان، بعضه ببعض متفاضلا.
وقال في الجديد: (العلة فيها أنها مطعومة جنس). وهو الصحيح. فعلى هذا: العلة ذات وصفين، فيحرم الربا في كل ما يطعم، قوتًا أو تفكُّها.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (العلة فيها أنها مكيلة جنس، أو موزونة جنس).
فعلى هذا: يجوز عنده بيع تمرة بتمرتين، وبيع كف حنطة بكفين؛ لأن ذلك غير مكيل ولا موزون، ولا يجوز عنده بيع الجص، والنورة، والحديد، والرّصاص بعضه ببعض متفاضلاً؛ لأنه مكيل أو موزون.
وقال مالك رحمة الله عليه: (العلة فيها أنها مكيلة مقتاتة جنس).
فعلى هذا: يحرم الربا عنده فيما كان قوتًا أو يصلح للقوت.
وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: العلة فيها: أنها جنس تجب فيه الزكاة.
فعلى هذا: لا يجوز عنده بيع ما يجب فيه الزكاة بعضه ببعض متفاضلاً من الحيوان.
وقال سعيد بن جبير: العلة فيها: تقارب المنفعة، فكل شيئين تقارب الانتفاع بهما، لا يجوز عنده بيع أحدهما بالآخر متفاضلا، كالتمر بالزبيب، والحنطة بالشعير، والذرة بالجاورس.
وقال ابن سيرين: العلة فيها الجنس فقط، فإذا اختلف فيها الجنس.. لم يكن فيها ربا.
فأعمّ العلل علّة سعيد بن جبير؛ لأنها تتناول الجنس والجنسين، ثم بعدها: علة ابن سيرين، ثم علتنا في الجديد، ثم: علة أبي حنيفة، ثم: علة مالك، ثم علتنا في القديم، وأبعدها: علة ربيعة.
والدليل على بطلان قول ابن سيرين، وابن جبير: ما رُوي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى عبدًا بعبدين».
والدليل على بطلان قولهما، وقول ربيعة: ما روى عبد الله بن عمرٍو: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن يجهز جيشًا، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة، يعني: في إبل الصدقة، فكان يأخذ بعيرًا ببعيرين إلى إبل الصدقة». والإبل تتقارب منفعتها، وهي جنسٌ واحدٌ، وتجب فيها الصدقة.
وأمّا الدليل على بطلان قول مالك: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرم الربا في الملح». وليس بقوت، فإن قال: لأنها تصلح القوت.. فليس بصحيح؛ لأن جميع الإدام والنار تصلح القوت، ومعلومٌ أنه لا ربا فيها.
وأمّا الدليل على بطلان قول أبي حنيفة ـ وهو وجه قوله الجديد ـ: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل». وهذا يعم القليل منه والكثير، والطعام اسمٌ لكل مطعوم شرعًا ولغة:
أما الشرع: فقوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 93]. وأراد به: سائر المطعومات.
وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]. وأراد به: الماء.
وقَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكتاب حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]. وأراد به: ذبائحهم، وهو اللحم.
وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «مكثنا مع رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زمانًا ما لنا طعامٌ إلا الأسودان: الماء والتمر».
وأما اللغة: فإن الرجل يقول: ما طعمت اليوم شيئًا، إذا لم يأكل شيئًا من المطعومات جملةً. وقال لبيد:
لمعفر قهد تنازع شلوه... غبس كواسب لا يمن طعامها و(المعفر): ولد الظبية، إذا أرادت أمه فطامه عن الرضاع.. فإنها تقطعه عن الرضاع أيامًا، ثم تعود إلى إرضاعه أيّامًا، ثم تقطعه أيّامًا، ثم تعود إلى إرضاعه أيامًا، ثم تقطعه، تفعل ذلك حتى لا يضر به القطع جملة، فإذا فعلت الظبية هذا، قيل: عفرت ولدها، والولد معفَّر، و(القهد): من صفات لونه، و(الشلو): العضو، و(الغبس): السباع، وقوله: (كواسب)؛ لأنها تكسب ما تأكله، وما يأكل أولادها، وقوله: (ما يمن طعامها)، أي: أنها تأخذه بأنفسها، ليس أحدٌ يمن عليها به، و(تنازعها): تجاذبها لأعضاء ولد الظبية، فسمَّى ذلك: طعامًا لها؛ لأنه مطعومٌ لها.
وإذا قلنا بهذا: فإن الربا يحرم في كل ما يطعم قوتًا، وقل ما يكون إلا مكيلاً أو موزونًا، ويحرمُ فيما يطعم تفكُّهًا، وغالبُه: أنه غير مكيل ولا موزون، وفيما يطعم تداويًا، وقد يدخله الكيل والوزن، وقد لا يدخله، وفي الماء وجهان:
أحدهما: يحرم فيه الربّا؛ لأنه مطعوم.
والثاني: لا ربا فيه؛ لأنه غير متمول في العادة.
قال الطبري: ويحرم الربا في الزعفران؛ لأنه مطعوم.
وقال الصيمري: ويحرم الربا في اللبان؛ لأنه مطعوم. وفي الزنجبيل وحبّ الكتان وجهان، ولا ربا في العود والمصطكى؛ لأنهما غير مطعومين.
قال ابن الصبّاغ: ولا يحرم الربا في النوى؛ لأنه من طعام البهائم، فأشبه القرظ والقضب والحشيش.
ويحرم الربا في الطين الأرمنيّ؛ لأنه يخلط في الأدوية لأجل السفوف، ولا يحرم الربا في الطين الخراسانيّ؛ لأنه يؤكل سفهًا، ولهذا روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «يا حميراءُ لا تأكلي الطين، فإنّه يصفر اللون».
وفي ماء الورد وجهان، حكاهما الصيمري.

.[فرع: الربا في الأدهان]

وأما الأدهان: فعلى أربعة أضرب:
ضربٌ: يعد للأكل، كالزيت، ودهن الجوز واللوز، ودهن الحبّة والخضراء،
ودهن الفجل، ودهن الخردل، ودهن الصنوبر والشيرج، فهذا يحرم فيه الربا؛ لأنه مطعوم.
وقال أبو إسحاق: لا يجوز بيع الشيرج بعضه ببعض؛ لأنه فيه الماء والملح. وهذا ليس بشيء؛ لأنه لا ينزل معه.
والضرب الثاني: يراد للتداوي، كدهن اللوز المر، ودهن الخروع، فيجري فيها أيضا الربا؛ لأنها تؤكل للتداوي، فأشبه الهليلج والبليلج.
والضرب الثالث: ما يراد للطيب، مثل: دهن البنفسج، ودهن الورد والياسمين والبان والزنبق، ففيه وجهان:
أحدهما: لا ربا فيه؛ لأنه غير مأكول.
والثاني: فيه الربا، وهو الصحيح؛ لأنه مأكول، وإنما لم يؤكل؛ لأنه ينتفع به بما هو أكثر منه، فجرى مجرى الزعفران، ولأن أصله من السمسم؛ لأن الورد والبنفسج والبان يفرش تحت السمسم ليكسبه رائحته، فإذا جف ذلك.. فرش تحته شيء آخر منه إلا أن يكسبه الرائحة، ثم يعصر السمسم، فهو من السمسم، إلا أن رائحته رائحة هذه الأشجار.
فعلى هذا: لا يجوز بيع شيء من هذه الأدهان بالشيرج، ولا بيع نوع منها بنوع آخر متفاضلاً.
وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز بيع الدهن المطيب بعضه ببعض متفاضلاً إذا اختلف طيبه، وإن كان أصله واحدا. وهذا ليس بصحيح؛ لأنها فروع لأصل واحد فيه الربا، فأشبه الأدقة.
والضرب الرابع: من الأدهان ما يراد للاستصباح، وهو البزر، ودهن السمك، ففيه وجهان:
أحدهما: يحرم فيه الربا؛ لأنه مأكول، وأصل البزر حب الكتان، وهو مأكول يطرح مع اللحم.
والثاني ـ ولم يذكر في "التعليق" غيره ـ: لا يحرم فيه الربا؛ لأنه ليس بمأكول قوتًا، ولا يتداوى به، وإنما يؤكل سفهًا، ويراد للاستصباح، فلم يحرم فيه الربا.

.[مسألة: ما لا يوجد فيه علة الربا]

وما سوى الذهب والفضة والمأكول والمشروب، لا يحرم فيه الربا، فيجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا ونسيئة. ويجوز أن يشتري حيوانًا بحيوانين، سواء أريد بهما الذبح أو لم يرد.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز بيع الجنس الواحد بعضه ببعض إلى أجل، ولا إسلام أحدهما بالآخر، كالثوب بالثوب، والعبد بالعبد).
وقال مالك (لا يجوز بيع حيوانٍ بحيوانين من جنسه، بصفقة يقصد بهما أمر واحد، إما الذبح، وإما غيره).
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن يجهز جيشًا، فنفدت الإبل، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة».
وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه باع جملاً إلى أجل بعشرين بعيرًا). و: (باع ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بعيرًا، بأربعة أبعرة).
ولأنه حيوان يجوز بيعه بغير جنسه، فجاز بيعه بجنسه نسيئة وإن تفاضلا، كما لو أريد أحدهما للذبح والآخر للقنية عند ملك.

.[فرع: ربا النسيئة]

ولا يجوز بيع نسيئة بنسيئة، بأن يقول: بعني ثوبًا في ذمتك من صفته كذا وكذا، إلى غرة شهر كذا بدينار في ذمتي مؤجل إلى يوم كذا؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الكالئ بالكالئ». قال أبو عبيد: هو بيع النسيئة بالنسيئة، يقال منه: كلأته كلاءة، أي: استنسأت نسيئة، و(النسيئة): التأخير، قال الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37]. وهو تأخيرهم تحريم المحرم إلى صفر، ومنه قول الشاعر:
وعينه كالكالئ الضِّمار

يعني (بعينه): حاضرة، يقول: فالحاضر من عطيته كالنسيئة. و(الضمار): الغائب الذي لا يرجى.

.[مسألة: بيع متحد العلة]

وما يحرم فيه الربا لعلة واحدة، إذا أراد بيع بعضه ببعض.. فينظر فيه:
فإن كان ذهبًا أو فضة.. نظرت:
فإن أراد بيع الجنس بعضه ببعض، كالذهب بالذهب، والفضة بالفضة.. فلا يجوز بيعهما إلاَّ مثلاً بمثل، ولا يجوز التفرق قبل القبض، ولا يجوز إسلام أحدهما بالآخر، ولا بيع أحدهما بالآخر إلى أجل، وإليه ذهب ثلاثة عشر نفسًا من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.
وروي عن ابن عباس، وابن الزبير، وزيد بن أرقم، وأسامة بن زيد رضي الله
عنهم: أنهم قالوا: (يجوز بيع الجنس بجنسه متفاضلا، ولا يحرم الربا فيه إلا من جهة النَّساء لا غير).
دليلنا: ما روي في حديث عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إلا مثلا بمثل».
إذا ثبت هذا: فسواءٌ كانا مصوغين، أو غير مصوغين، أو كان أحدهما مصوغًا أو مضروبًا، والآخر تبرًا.. فإنه لا يجوز بيع الجنس بجنسه متفاضلاً.
وإن أراد بيع أحد الجنسين بالآخر، كبيع الذهب بالفضة.. جاز فيهما التفاضل، واشترط التقابض فيهما قبل التفرق. هذا مذهبنا، وبه قال أبو حنيفة.
وحكي عن مالك: أنه قال: (يجوز بيع المصوغ والمضروب بالتبر بقيمته من جنسه متفاضلا). وأصحابه ينكرون ذلك عنه.
دليلنا: ما روى الشافعي، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: (أن معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق، بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن مثل ذلك إلاَّ مثلاً بمثل، فقال معاوية: ما أرى بهذا بأسًا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من هذا؟ أخبره عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، ويخبرني عن رأيه! والله لا ساكنتك بأرض أنت فيها. ثم قدم أبو الدرداء على عمر أمير المؤمنين، فذكر ذلك له، فكتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى معاوية: أن لا يبيع ذلك إلا وزنًا بوزن، مثلاً بمثل).
وروى مجاهد قال: كنت مع ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فجاء صائغ، فقال: يا أبا عبد الرحمن إنِّي أصوغ الذهب، وأبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه، فأستفضل من ذلك قدر عمل يدي، فنهاه ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن ذلك، فجعل الصائغ يردد
عليه المسألة، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ينهاه عن ذلك، حتى انتهى إلى المسجد، أو إلى دابته يريد أن يركبها، فقال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلينا، وعهدنا إليكم).

.[فرع: الربا في الطعوم]

وأما ما يحرم فيه الربا من المطعومات: فإن باع الشيء بجنسه، كالحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير.. حرم فيه الربا من جهتين: من جهة التفاضل، ومن جهة النَّساء، إذ لا يجوز التفرق قبل القبض.
وإن باعه بغير جنسه من المطعومات، كالحنطة بالشعير.. جاز فيه التفاضل، ولكن لا يجوز أن يتفرّقا قبل القبض.
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يتفرّقا قبل القبض، ويجوز شرط خيار الثلاث فيه، سواء باع الحنطة بالحنطة، أو باع الحنطة بالشعير).
دليلنا: ما روى عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين، يدًا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والبر بالشعير، والتمر بالملح، يدًا بيد، كيف شئتم». فأجاز بيع الطعام بالطعام، بالشرط الذي أجاز به بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، فلمّا
كان من شرط بيع الذهب بالذهب، والذهب بالورق القبض في المجلس، فكذلك في بيع الطعام بالطعام.
وروى عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء».
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا هاء وهاء» يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يأخذ بيد، ويعطي بالأخرى.
والثاني: أن لا يفترق المتبايعان من مكانيهما حتى يتقابضا).
وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لطلحة بن عبيد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد صارف مالك بن أوس، وأراد طلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يؤخر القبض عن المجلس، فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لا تفارقه حتى تعطيه ورقه، أو ترد إليه ذهبه).
وإذا كان هذا تفسيرًا منه للخبر، وهو الراوي له.. دلّ على أن المراد به هذا.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن تخايرا قبل التقابض.. بطل الصرف؛ لأن التخاير يقوم مقام التفرق في بطلان خيار المجلس، فقام مقامه في بطلان الصرف قبل القبض، ولو وكل من يقبض له، فقبض له الوكيل قبل تفرّق المتبايعين.. صح. ولو قام الموكل قبل أن يقبض الوكيل.. بطل.

.[فرع: في الصرف]

قال الشافعي في (الصرف): وإذا تصارفا.. فلا بأس أن يطول مقامهما في مجلسهما، ولا بأس أن يصطحبا من مجلسهما إلى غيره ليوفِّيه؛ لأنهما لم يتفرّقا).
قال ابن الصباغ: فإن تعذر عليهما التقابض في المجلس، وأرادا أن يتفرقا.. فإنه يلزمهما أن يتفاسخا العقد بينهما، فإن تفرقا قبل ذلك.. كان ربا، وجرى مجرى بيع أموال الربا بعضها ببعض نسيئة، ولا يغني تفرقهما؛ لأن فساد العقد إنما يكون له شرعًا، كما أن العقد مع التفاضل فاسدٌ، ويأثمان به.
وإن قبض كل واحد منهما بعض ما صارف به، ثم تفرقا.. بطل الصرف في قدر ما لم يتقابضا فيه، وهل يبطل الصرف في قدر ما اتفق قبضهما فيه؟ فيه طريقان، بناء على من اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض.

.[فرع: بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة]

وإذا باع ذهبًا بذهب، أو ورقًا بورق.. نظرت:
فإن كانا خالصين، لا غش في واحد منهما.. جاز البيع مثلا بمثل، سواء كانا جيِّدين أو رديئين، أو كان أحدهما جيدا من جهة الجنس أو من جهة السكة، والآخر رديئًا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما». ولم يفرق.
ويجوز أن يبيع منهما ذهبًا بورق على ما مضى.
وإن كان فيهما غش أو في أحدهما.. نظرت: فإن كان الغش فيهما غير مستهلك، وهي الدراهم التي غشها له قيمة، كالتي تغش بالصفر والنحاس.. فإنه لا يجوز بيع بعضها ببعض بلا خلاف على المذهب. واختلف أصحابنا في علته:
فقال أكثرهم: لا يجوز؛ لأنه بيع فضة وعرض، بفضة وعرض.
ومنهم من قال: لا يجوز لهذا المعنى، ولأن المقصود منها الفضة، وهي غير متميزة عمّا ليس بمقصود منها، فلم يصح، كما لا يصح بيع اللبن المشوب بالماء، فإن أراد أن يشتري بهذه الدراهم ثوبًا أو عرضًا، فعلى قول من قال: العلة فيه: أنه فضة وعرض، بفضة وعرض.. يجوز. وعلى قول من قال: العلة فيه: أن المقصود غير متميز.. لا يجوز.
وأما إذا أراد أن يشتري بهذه الفضة ذهبًا، فمن قال من أًصحابنا: لا يصح أن يشتري بها عرضا.. فالذهب أولى أن لا يصح شراؤه بها. ومن قال: يجوز شراء العروض بها.. فهل يصح شراء الذهب بها؟ فيه قولان؛ لأنه بيع وصرف.
وأما الدنانير التي غشها الفضة: فلا يصح شراء الذهب بها، ولا شراء الفضة بها، وجهًا واحدًا. وهل يصح شراء العرض بها؟ فيه وجهان، الصحيح: أنه يجوز؛ لما ذكرناه.
وأما إذا كان الغش مستهلكًا، وهي الدراهم التي غشها الزرنيخ والنُّورة؛ لأنها إذا صفيت لم يكن لغشها قيمة.. فلا يصح بيع بعضها ببعض؛ لأن الغش إن كان فيهما.. فلأنه لا يعلم التساوي بين الغشين، ولا بين الفضتين. وإن كان الغش في أحدهما؛ فلأنه لا يعلم التساوي بين الفضتين.
ويجوز شراء السلع والذهب بها، وجهًا واحدًا؛ لأن هذا الغش لا يختلط بالفضة، وإنما الفضة مطليّة عليه.